كابتن فانتستيك الهروب من المدنية

التخلى عن نمط الحياة السائد، ومحاولة خلق عالم جديد بمعايير مختلفة، ظل حلما يراود الكثير على مدى آلاف السنين الماضية، وهو ما اقترب منه الفيلم الأمريكى "كابتن فانتستيك – 2016".

الفيلم يدور حول فكرة البحث عن النموذج الأفضل للتربية والحياة، المنهج المثالى لخلق مجتمع بشرى، بعيدا عن كل مساوئ المدينة والتى حولت حياة البشر إلى كم هائل من الأكاذيب والادعاء غير الصادق والاستهلاك غير المبرر، وهو ما أدى إلى أن تتحول الحياة نفسها إلى مجرد "زيف"، قناع مبهر يخفى وراءه أسوأ ما فى الإنسان من فساد، ويسعى الفيلم لعرض جمهوريته الفاضلة، "اليوتوبيا" التى سعى وراءها الكثير من الفلاسفة، وحلموا بوجودها ذات يوم على الأرض.

 

 

"كابتن فانتستيك" من إخراج وسيناريو وحوار "مات روس"، وقام بدور البطولة الفنان "فيجو مورتينسون"، فى دور "بن" الأب الذى اختار بإرادته هجران المدينة مع زوجته، والعيش مع أطفاله الستة فى إحدى غابات أمريكا، بشكل بسيط أقرب للحياة البدائية، ويقوم بتعليم أطفاله بعيدا عن المدارس، معتمدا فى معيشته الطبيعة المحيطة به، إضافة الى ممارسته للرياضة البدنية والروحية، باعتبار أن هذا النمط هو الأفضل والأقرب للمثالية.

 

 

التمثيل والإخراج هما العنصران الأقوى فى الفيلم، حيث استطاع "مات روس" التحكم فى شخصيات الفيلم، خصوصا الأطفال، كما أن إيقاع الفيلم وأداء الممثلين كان هادئا وبعيدا عن التوتر أو الانفعال، وابتعد عن المشكلات الفلسفية المعقدة، طارحا وجهة نظره بشكل سلس، ومن خلال قصة بسيطة، حول ذهاب العائلة لوداع الأم التى انتحرت فى إحدى المصحات.

 



حصل الفيلم على عدة جوائز، من بينها: جائزة الإخراج فى قسم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائى 2016، وكذلك جائزة أفضل فيلم فى مهرجان سياتل السينمائى الدولى، وجائزة الجمهور فى مهرجان كارلوفى فارى السينمائى الدولى.

 

 

مشكلة الفيلم تبدو فى النصف الأخير منه، وهى متعلقة بالسيناريو، حيث توزعت الفكرة على أكثر من خط درامى، الأول حضور جنازة الأم وتلبية رغبتها فى حرق جثمانها، والثانية الصراع بين الأب وأسرة الزوجة حول طرق تربيته لأبنائه، كما أن النصف الثانى من الفيلم يبدو باهتا ومشوشا، فلا يوجد مبرر لعودة الأبناء والذين كان بعضهم ناقما على أسلوب الأب فى التربية، وحارب أحدهم من أجل البقاء مع جده، ليقرروا فجأة بلا مبرر قوى، العودة إلى البرية مرة أخرى، حيث بدا مشهد اختبائهم فى الباص الذى يمتلكه الأب، وخروجهم بعد عدة ساعات، ساذجا، كما أن الفتاتين الكبيرتين وهما فى سن المراهقة، من أكثر الشخصيات المعرضة للانجذاب نحو غواية المدينة والحداثة، لكنهما لم تبديا أى رد فعل تجاه كل ذلك، ولم تدخلا فى صراع نفسى أو مقاومة تجاه سلطة الأب، كما فعل شقيقهما، بل بالعكس هو ما حدث، وبدا دورهما باهتا وغير مرئى، الوحيد الذى وقع فى هذا الصراع هو الطفل الصغير، والذى رفض المنظومة التى يتبعها الأب فى تربيتهم، معلنا تمرده عليها واختيار البقاء مع جده.

 

 

"كابتن فانتستيك" لم ينتصر لوجهة نظر معينة، وكأنه أمسك بالعصا من المنتصف، فهو مع طريقة الأب فى تربية أبنائه وفى نفس الوقت مع نشوء علاقة لهم مع المدينة، التى هرب منها، خصوصا فى المشهد الأخير من الفيلم، عندما يخبرهم أن يسرعوا لأن الأتوبيس الذاهب إلى المدينة على وشك الوصول، فى إشارة إلى اندماجهم فى المؤسسة التعليمية النظامية، أو موافقته على سفر أكبر أبنائه إلى دولة إفريقية، وهو ما يعنى تراجعه عن أفكاره ورضوخه لتواصل مع العالم ولو بشكل جزئى، أو الاكتفاء بالوقوف على الحافة والاكتفاء بالقليل من المدنية.

 

 

من المشاهد الجميلة فى الفيلم، مشهد الجنازة، حيث يدخل الأب وأطفاله إلى الكنيسة وهم يرتدون أزياء زاهية، حتى أن أحد الأطفال كان يرتدى قناعا واقيا من الغازات السامة، فى مشهد ساخر وعبثى إلى حد كبير، بل وصادم لمعتقدات الآخرين المتواجدين فى الكنيسة، حيث تعامل مع "الفقد" كطقس احتفائى بالمعنى الحرفى، وكأنه نزهة أو رحلة، وهو ما تحقق فى مشهد آخر عندما استطاعوا الحصول على جثة الأم، وقاموا بالعزف والغناء فوق تل بالقرب من ساحل البحر، فى مشهد يستحق أن يكون رومانسيا وليس حزينا، ويذكرنا مشهد ملابس بن وعائلته فى الكنيسة، بالأزياء التى كانت موجودة فى أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، من حيث التصميم أو الألوان، وكأنهم أخرجوها للتو من الصناديق القديمة، وقد تميزت تلك الفترة بتمرد جيل الشباب على قيم المجتمع السياسية والسلوكية، ورفض الحرب أو التسلح النووى، فى دعوات عمت أوروبا وأمريكا.

 

 

يحاول "كابتن فانتستيك" أن يعيد التفكير فى جميع المسلمات التى يؤمن بها الإنسان، بداية من اختياره لدينه أو اسمه أو طريقة تربيته، فالأب ابتكر أسماء لا معنى لها لأبنائه، كما تركهم على حريتهم فى اختيار ما يؤمنون به من أديان أو أفكار، فاختار الابن الأكبر أن يكون "ماويا" نسبة إلى ماوتسى تونج، أو التربية على أن الجسد لا يعد عيبا أو عورة، وليس هناك حجرا أو حواجز على ما يجوز أن يعرفه الأطفال من معلومات، فالفيلم فى فكرته الأساسية يسعى لكسر "التابوهات"، والتحرر من كل ما أنتجته البشرية من آراء ومعتقدات وإعادة النظر فيها مرة أخرى، بعيدا عن قدسيتها، وإعادة تكوين الأسرة طبقا لأسلوب جديد لا يخضع لقيود أو كلمات مثل: العيب أو الذوق أو جرح مشاعر الآخرين، ما يقصده الفيلم هو العودة بالإنسان إلى مرحلته الأولى فى وجوده على الكوكب، بكل نقائه وفطرته، وقبل أن يصنع قيود الأفكار والتقاليد، أو تتحكم به ثقافة الاستهلاك، أو يصبح عبدا للتكنولوجيا الحديثة، بحيث لا يستطيع العيش دون إنترنت أو كمبيوتر.

 

 

الفيلم هو نقد للمدنية الحديثة، التى جلبت الكثير من المآسى على الإنسان، سواء على صحته الجسدية أو النفسية، أو علاقته بالبيئة من حوله ليصبح متجانسا مع الطبيعة، وهو ما شكل مفاجئة للأبناء عند نزولهم للمدينة، حيث اعتقدت الطفلة الصغيرة أن الناس مرضى، لمجرد أنهم يعانون من البدانة الناتجة عن ثقافة المدينة بكل منجزاتها، من وجبات سريعة والجلوس لفترات طويلة وعدم بذل مجهود عضلى.

 



loader
 
قـلوبنا معك غـزة