(كركوز عواظ ،كيس الحواجة و مدائح رمضانية) :مسنّون في نابلس يسترجعون ذكريات وعادات رمضان قديما

 

 

 

عادات رمضانية قليلة لا تزال على قيد الحياة في مدينة نابلس التي يعتبرها الكثيرون " الشام الصغرى " فأولئك الذين يعيشون الرمضان السبعين والثمانين وربما يزيد ، مازالت تسكن فيهم أيام الحنين إلى " رمضان أيام زمان " حيث كانت عيون المدينة وساكنيها لا تغفو إلا بعد تناول السحور وصلاة الفجر .

شاعر الربابة

يجلس التسعيني أبو محمود كلبونة  أمام محل عطارة لابنه في أزقة خان نابلس القديمة ،و يعود بنا في ذاكرته إلى الوراء كثيرا إلى عام 1937 عندما كان طفلا ويقول :" مازلت اذكر شاعر الربابة الذي كان يأتي من مصر لزيارة نابلس في رمضان ،حيث يجلس على كرسيا في صدر المقهى ويلتف حوله الرجال يستمعون إليه وهو يروي بطريقة جذابة سيرة الزير سالم وأبي زيد الهلالي وقصة عنتر بن شداد وغيرها من الحكايات الشعبية ،يرويها في سلسلة من الحلقات مقسمة على ليالي رمضان  ينهي كل حلقة في موقف يجعلنا في شوق ولهفة لمعرفة ما سيجري في الحلقة القادمة وذلك تشويقا للمستمعين ليحضروا في الليلة التالية ويستمعوا لبقية الأحداث ، ويتابع "في بعض الأحيان يكون الشاعر حسن الصوت فينشد بعض المدائح الدينية ومن أجملها حكاية هجرة الرسول عليه السلام مع أبي بكر الصديق من مكة إلى المدينة ."

كركوز عواظ

على بعد عدة أمتار من الحاج كلبونة كان يستمع إلينا السبعيني سرحان الشاهد ،ويروي قائلا  لمراسلة دنيا الوطن :" لازلت اذكر في إحدى مقاهي باب الساحة تلك الشاشة من القماش الأبيض يقف وراءها الحكواتي وأمامه قنديلا أو شمعة ،ويمسك بيديه أشخاصا من الورق المقوى أو رقائق الخشب وقد ربطت بخيطان إلى أصابع يديه وهو يحركها من وراء الشاشة فتبدوا الشاشة مضاءة ما عدا الأماكن التي يتحرك فيها الأشخاص ،ويروي الحكواتي على لسانها بعض الحكايات والنكت المضحكة ويغير صوته تبعا لتغيير الشخصية ،وكثيرا ما كانت تصدر عنه اصواتا تثير الضحك وكانت حكاياته تتناول شخصيات هزلية معظمها يعود إلى العهد العثماني  اذكر منها كركوز عواظ ،وكان يتلفظ ببعض المصطلحات التركية  التي كانت ما تزال شائعة حتى ذلك الوقت ." و يتابع :" ابتداءا من أول أيام رمضان كنت أشاهد في السوق  رجلا غريب الهيئة اسود البشرة ،يرتدي الملابس المغربية يحمل بيده عصا وعلى ظهره كيسا  كان يأتي في كل رمضان إلى نابلس لجمع فطرة الصيام وينادي  بصوت جهور " فطرة تمام  .. زكاة الصيام،سنة الرسول عليه الصلاة  والسلام " وكنت أتخيل أن هذا الشخص هو " رمضان " .

درجات المئذنة وكيس الحواجة

أما الحاجة السبعينية أم محمود  النابلسي  تروي :" عندما كنا في سن التاسعة كنا لا نمارس الصيام كالكبار وكان الأهل يقولون لنا يكفي أن تصوموا " درجات الميدنة " أي لا نأكل أو نشرب شيئا من الصباح حتى صلاة الظهر فنتناول وجبة الغداء وبعدها نكمل الصيام حتى سماع صوت المدفع  ، وكنا نحن الأطفال  نحتفظ بكيس صغير من القماش نعلقه في رقابنا ،نسميه " كيس الحواجة " حيث نتحوج فيه بأصناف مختلفة من المأكولات مثل قمر الدين ،و الملبس والفستق والبزر والقضامة والزبيب والزعرور والعناب وغيرها ،وفي المساء نحصي ما جمعناه في النهار من " حواجة " ومن جمع اكبر قدر من أصناف المأكولات يتباهى ويفتخر أمام رفاقه .

عالسوق نازل

" عالسوق نازل " عادة نابلسية قديمة إذ كان أهل البلدة القديمة جميعهم يذهبون إلى الأسواق ،وينشدون الأغاني التراثية القديمة وينظمون الاحتفالات ،هكذا استهل الحاج وليد حلاوة ( 75 ) عام ذكرياته عن رمضان قديما ويضيف لدنيا الوطن" كانت الأجواء الرمضانية مختلفة جدا ،كنا ننتظر رمضان بلهفة وشوق ،فهو الشهر الوحيد الذي كان يسمح لنا أن نتأخر طيلة  ساعات الليل نلهو ونلعب وننشد على عكس بقية أيام السنة التي كان يحظر علينا فيها أن نتأخر خارج المنزل إلى ما بعد ساعات الغروب ،وكنا ننفق ما جمعناه في النهار من نقود في شراء عصير الخروب والسوس والذرة والفستق وكل ما يحلو لنا ب " السوق نازل " ،وبعد إثبات رؤية الهلال كان يعلن عن حلول شهر رمضان بإطلاق سبع طلقات مدفعية  فنخرج مع أطفال الحارة فرحين مستبشرين  متوجهين إلى السوق وفي أيدينا الفوانيس  وتتقدمنا الفتيات مرددات مدائح رمضان ونحن نردد وراءهن ".

ورددت الحاجة أم محمود لنا بعض تلك المدائح التي كانوا يهتفون بها في " السوق نازل " : " ونزلت عالسوق نازل ولقيت لي تفاحة ،حمرا حمرا لفاحة ،حلفت ما أذوقها لييجي خيي وبيي ،وأجا خيي وبيي وأطلعني عالعلية ،ولقيت شب نايم  ،غزيته غزيته وشربت من زيته ،زيته تمر حنا معلق باب الجنة ،يا جنة ما احلاكي ،رب السما حلاكي  "

ومنها أيضا " يا راس السكر أي والله وقع وانكسر أي والله ،يسلم من جابه أي والله محمد وعياله أي والله ساند باروده أي والله هو وجدوده أي والله " .

ويذكر الحاج حلاوة " كلما التقينا بمجموعة مماثلة من الأطفال يعلو صوتنا بالمديح ،وعندما نصل إلى باب الساحة  نشتري ما يعرضه الباعة المتجولون من أصناف الحلوى وفي الليالي الممطرة كنا نتجمع في دكان بائع السحلب ونحتسي كؤوس السحلب يزينها القرفة والزنجبيل ". ونستمر بالنزول إلى السوق نازل طيلة أيام الشهر الفضيل باستثناء تلك الليالي التي تكون فيها الأمطار غزيرة ولا تحتمل .

الشراقة والغرابة

وتحدث الحاج سرحان الشاهد عن تلك المباراة بين الشراقة والغرابة ،" كنا نذهب إلى خان التجار لمشاهدة تلك المباراة بين سكان شرقي البلد وغربها على اعتبار خان التجار هو الحد الفاصل بينهم وكانت جموع الشباب من كلا الجانبين يهتفون "نحن الشراقة دوبنا لفينا ،والغرابة بالمقابل يهتفون " نحن الغرابة دوبنا لفينا " ويعلنون استعدادهم للمباراة وكل فريق يتقدم نحو الآخر ليمسكوا بعضهم بعضا  وخطفهم إلى منطقة نفوذهم وعند انتهاء المباراة يحصى عدد المخطوفين والفريق الذي لديه العدد الأكبر من المخطوفين يعتبر الفائز " .

وتمنت الحاجة أم محمود لو أن الزمان يرجع إلى الوراء كثيرا لتعيش تلك الأجواء الرمضانية مرة أخرى  مبينة أن رمضان زمان كان أجمل بعاداته وتقاليده وطقوسه وتكاتف أهل البلد .





loader
 
قـلوبنا معك غـزة